الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية الرتبة في طلب الحسبة
.الْبَابُ الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ: فِي الْحِسْبَةِ عَلَى الصَّبَّاغِينَ: أَكْثَرُ صَبَّاغِي الْحَرِيرِ الْأَحْمَرِ - وَغَيْرِهِ مِنْ الْغَزْلِ وَالثِّيَابِ - يَصْبُغُونَ فِي حَوَانِيتِهِمْ بِالْحِنَّا عِوَضًا عَنْ الْقُوَّة؛ فَيَخْرُجُ الصَّبْغُ حَسَنًا مُشْرِقًا، فَإِذَا أَصَابَتْهُ الشَّمْسُ تَغَيَّرَ لَوْنُهُ، وَزَالَ إشْرَاقُهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُدَكِّنُ الثِّيَابَ بِالْعَفْصِ وَالزَّاجِ، إذَا أَرَادَ صَبْغَهَا كَحُلِيًّا، ثُمَّ يُدْلِيهَا فِي الْخَابِيَةِ، فَتَخْرُجُ صَافِيَةَ اللَّوْنِ شَدِيدَةَ السَّوَادِ، فَإِذَا مَضَتْ عَلَيْهَا أَقَلُّ مُدَّةٍ تَغَيَّرَ لَوْنُهَا، وَنَفَضَ صَبْغُهَا. وَهَذَا كُلُّهُ تَدْلِيسٌ، فَيَمْنَعُهُمْ الْمُحْتَسِبُ مِنْ فِعْلِهِ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَكْتُبُوا عَلَى ثِيَابِ النَّاسِ أَسْمَاءَهُمْ بِالْحِبْرِ، لِئَلاَ يَتَبَدَّلَ مِنْهَا شَيْءٌ. وَأَكْثَرُ الصَّبَّاغِينَ والمرندجين - إذَا كَانَ فِي أَيَّامِ الْمَوَاسِمِ وَالْأَعْيَادِ، وَغَيْرِهَا مِنْ الْأَفْرَاحِ - يُغَيِّرُونَ ثِيَابَ النَّاسِ، وَيُكْرُونَهَا بِالْأُجْرَةِ، لِمَنْ يَلْبِسُهَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَيَتَزَيَّنُ بِهَا. وَهَذِهِ خِيَانَةٌ وَعِدْوَانٌ، فَيَمْنَعُهُمْ الْمُحْتَسِبُ مِنْ فِعْلِهِ. وَيَعْتَبِرُ عَلَيْهِمْ مَا يَفْعَلُونَهُ وَيَغُشُّونَ بِهِ الصَّبْغَ، وَيَعْرِضُ ذَلِكَ عَلَى عَرِيفِهِمْ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ..الْبَابُ التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ: فِي الْحِسْبَةِ عَلَى الْأَسَاكِفَةِ: لاَ يُكْثِرُونَ حَشْوَ الْخِرَقِ الْبَالِيَةِ فِيمَا بَيْنَ البشتيك وَالْبِطَانَةِ، وَلاَ بَيْنَ النَّعْلِ وَالظِّهَارَةِ. وَيَشُدُّونَ حَشْوَ الْأَعْقَابِ، وَلاَ يَشُدُّونَ نَعْلًا قَدْ أَحْرَقَتْهُ الدِّبَاغَةُ، وَلاَ فَطِيرًا لَمْ يَنْضَجْ، وَلاَ أَدِيمًا بِهَذِهِ الصِّفَةِ. وَيَنْبَغِي أَنْ يُحَكِّمُوا إبْرَامَ الْخَيْطِ، وَلاَ يُطَوِّلُونَهُ أَكْثَرَ مِنْ ذِرَاعٍ، لِأَنَّهُ إذَا طَالَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ انْسَحَجَ، فَانْتَقَضَ إبْرَامُهُ، وَضَعُفَ عَنْ الْجَذْبِ. وَلاَ يَخْرِزُونَ بِشَعْرِ الْخِنْزِيرِ، بَلْ يَجْعَلُونَ عِوَضَهُ لِيفًا، أَوْ شَارِبَ الثَّعْلَبِ، فَإِنَّهُ يَقُومُ مَقَامَهُ. وَلاَ يَمْطُلُونَ أَحَدًا بِمَتَاعِهِ، إلاَ أَنْ يَشْرُطُوا لِصَاحِبِهِ إلَى يَوْمٍ مَعْلُومٍ، فَإِنَّ النَّاسَ يَتَضَرَّرُونَ بِالتَّرَدُّدِ إلَيْهِمْ، وَبِحَبْسِ الْأَمْتِعَةِ عَنْهُمْ. وَلاَ يَعْمَلُونَ الْوَرِقَ وَاللِّبَدَ وَأَشْبَاهَهُ فِي أَخْفَافِ النِّسْوَانِ، لِكَيْ تُصَرَّ عِنْدَ الْمَشْيِ، كَمَا يَفْعَلُهُ نِسَاءُ بَغْدَادَ، فَإِنَّهُ قَبِيحٌ، وَشُهْرَةٌ لاَ تَلِيقُ لِلْأَحْرَارِ؛ فَيَمْنَعُ الْمُحْتَسِبُ مِنْ عَمَلِهِ وَلُبْسِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ..الْبَابُ الثَّلاَثُونَ: فِي الْحِسْبَةِ عَلَى الصَّيَارِفِ: التَّعَيُّشُ بِالصَّرْفِ خَطَرٌ عَلَى دِينِ مُتَعَاطِيهِ، بَلْ لاَ بَقَاءَ لِلدِّينِ مَعَهُ إذَا كَانَ الصَّيْرَفِيُّ جَاهِلًا بِالشَّرِيعَةِ غَيْرَ عَالِمٍ بِأَحْكَامِ الرِّبَا. فَالْوَاجِبُ أَلاَ يَتَعَاطَاهُ أَحَدٌ إلاَ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ بِالشَّرْعِ، لِيَتَجَنَّبَ الْوُقُوعَ فِي الْمَحْظُورِ مِنْ أَبْوَابِهِ. وَعَلَى الْمُحْتَسِبِ أَنْ يَتَفَقَّدَ سُوقَهُمْ، وَيَتَجَسَّسَ عَلَيْهِمْ، فَإِنْ عَثَرَ بِمَنْ رَابَى - أَوْ فَعَلَ فِي الصَّرْفِ مَا لاَ يَجُوزُ فِي الشَّرِيعَةِ - عَزَّرَهُ وَأَقَامَهُ مِنْ السُّوقِ. هَذَا بَعْدَ أَنْ يُعَرِّفَهُمْ بِأُصُولِ مَسَائِلِ الرِّبَا، وَأَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَبِيعَ الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةَ بِالْفِضَّةِ، إلاَ مِثْلًا بِمِثْلٍ، يَدًا بِيَدٍ؛ فَإِنْ أَخَذَ الصَّيْرَفِيُّ زِيَادَةً عَلَى الْمِثْلِ، أَوْ تَفَرَّقَا قَبْلَ الْقَبْضِ كَانَ ذَلِكَ حَرَامًا. وَأَمَّا بَيْعُ الذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ، فَيَجُوزُ فِيهِ التَّفَاضُلُ، وَيُحَرَّمُ فِيهِ النَّسَا وَالتَّفَرُّقُ قَبْلَ الْقَبْضِ. وَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ الْخَالِصِ بِالْمَغْشُوشِ، وَلاَ بَيْعُ الْمَغْشُوشِ بِالْمَغْشُوشِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، كَبَيْعِ الدَّنَانِيرِ الْمِصْرِيَّةِ بِالدَّنَانِيرِ الصُّورِيَّةِ، أَوْ الصُّورِيَّةِ بِالصُّورِيَّةِ، أَوْ الدَّرَاهِمِ الأحدية بِالدَّرَاهِمِ الْقَرَوِيَّةِ، لِوُجُودِ الْجَهْلِ بِمِقْدَارِهَا وَعَدَمِ التَّمَاثُلِ بَيْنَهَا. وَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ دِينَارٍ صَحِيحٍ بِدِينَارِ قُرَاضَةٍ لِاخْتِلاَفِ قِيمَتِهَا، وَلاَ دِينَارٍ قَاشَانِيٍّ بِدِينَارٍ سَابُورِيٍّ لِاخْتِلاَفِ صِفَتِهِمَا. وَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ دِينَارٍ وَثَوْبٍ بِدِينَارَيْنِ. وَقَدْ يَفْعَلُهُ بَعْضُ الصَّيَارِفِ وَالْبَزَّازِينَ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ، فَيُعْطِي الْمُشْتَرِي دِينَارًا وَيَجْعَلُهُ قَرْضًا، ثُمَّ يَبِيعُهُ ثَوْبًا بِدِينَارَيْنِ، فَيَصِيرُ لَهُ عِنْدَهُ ثَلاَثَةُ دَنَانِيرَ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ، وَيَشْهَدُ عَلَيْهِ بِجُمْلَتِهَا. وَهَذَا حَرَامٌ أَيْضًا، لاَ يَجُوزُ فِعْلُهُ بِهَذَا الشَّرْطِ؛ لِأَنَّهُ قَرْضٌ جَرَّ مَنْفَعَةً؛ وَلَوْ أَنَّهُ لَمْ يُقْرِضْهُ الدِّينَارَ لَمَا اشْتَرَى مِنْهُ الثَّوْبَ بِدِينَارَيْنِ. وَمِنْهُمْ أَيْضًا مَنْ يَشْتَرِي الدَّنَانِيرَ بِدَرَاهِمَ فِضَّةٍ، أَوْ بِالْقَرَاطِيسِ الْإِفْرِنْجِيَّةِ، ثُمَّ يَقُولُ لِلْبَائِعِ: " أَحِلْ بِهَا عَلَيَّ غَرِيمًا لَك، لِتَبْرَأَ أَنْتَ مِنْ نَقْدِهَا وَوَزْنِهَا، أَوْ اسْتَجْرِهَا مِنْ عِنْدِي قَلِيلًا قَلِيلًا "، فَيُوَافِقُهُ عَلَى هَذَا الْفِعْلِ لِفَرْطِ جَهْلِهِ؛ وَهَذَا كُلُّهُ حَرَامٌ لاَ يَجُوزُ فِعْلُهُ. فَعَلَى الْمُحْتَسِبِ أَنْ يَعْتَبِرَ عَلَيْهِمْ جَمِيعَ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَمَا لَمْ نَذْكُرْهُ مِنْ هَذَا الْبَابِ. وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ وَزْنَ الْأَرْبَعَةِ مَثَاقِيلَ إذَا فُرِّقَتْ نَقَصَتْ نَقْصًا بَيِّنًا، وَلِهَذَا كَثِيرٌ مِنْ الصَّيَارِفِ يَكْرَهُ قَبْضَهَا لِنَفْسِهِ، وَإِذَا كَانَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعَةِ دَنَانِيرَ فَإِنَّهُ يَدْفَعُ إلَيْهِ أَرْبَعَةً، وَيَعِدُهُ بِقَبْضِ الْبَاقِي فِي وَقْتٍ آخَرَ. أَمَّا اعْتِبَارُ مَوَازِينِهِمْ وَصِنَجِهِمْ فَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ..الْبَابُ الْحَادِي وَالثَّلاَثُونَ: فِي الْحِسْبَةِ عَلَى الصَّاغَةِ: يَجِبُ أَلاَ يَبِيعُوا أَوَانِيَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْحُلِيِّ الْمَصُوغَةِ إلاَ بِغَيْرِ جِنْسِهَا، لِيَحِلَّ فِيهَا التَّفَاضُلُ، وَإِنْ بَاعَهَا الصَّائِغُ بِجِنْسِهَا حُرِّمَ فِيهِ التَّفَاضُلُ وَالنَّسَا وَالتَّفَرُّقُ قَبْلَ الْقَبْضِ، بِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي بَابِ الصَّرْفِ. فَإِنْ بَاعَ شَيْئًا مِنْ الْحُلِيِّ الْمَغْشُوشَةِ لَزِمَهُ أَنْ يُعَرِّفَ الْمُشْتَرِيَ مِقْدَارَ مَا فِيهَا مِنْ الْغِشِّ، لِيَدْخُلَ عَلَى بَصِيرَةٍ. وَإِذَا أَرَادَ صِيَاغَةَ شَيْءٍ مِنْ الْحُلِيِّ لِأَحَدٍ، فَلاَ يَسْبِكُهُ فِي الْكُوَرِ إلاَ بِحَضْرَةِ صَاحِبِهِ، بَعْدَ تَحْقِيقِ وَزْنِهِ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ سَبْكِهِ أَعَادَ الْوَزْنَ. وَإِنْ احْتَاجَ إلَى لِحَامٍ فَإِنَّهُ يَزِنُهُ قَبْلَ إدْخَالِهِ فِيهِ، وَلاَ يُرَكِّبُ شَيْئًا مِنْ الْفُصُوصِ وَالْجَوَاهِرِ عَلَى الْخَوَاتِمِ وَالْحُلِيِّ إلاَ بَعْدَ وَزْنِهَا بِحَضْرَةِ صَاحِبِهَا. وَبِالْجُمْلَةِ إنَّ تَدْلِيسَ الصَّاغَةِ وَغُشُوشَهُمْ خِفْيَةً لاَ تَكَادُ تُعْرَفُ، وَلاَ يَصُدُّهُمْ عَنْ ذَلِكَ إلاَ أَمَانَتُهُمْ وَدِينُهُمْ، فَإِنَّهُمْ يَعْرِفُونَ مِنْ الجلاوات وَالْأَصْبَاغِ مَا لاَ يَعْرِفُهُ غَيْرُهُمْ. فَمِنْهُمْ مَنْ يَصْبُغُ الْفِضَّةَ صَبْغًا لاَ يُفَارِقُ الْجَسَدَ إلاَ بَعْدَ السَّبْكِ الطَّوِيلِ فِي الروباص، ثُمَّ يَمْزُجُونَ بِهَا الذَّهَبَ لِلْوَاحِدِ اثْنَيْنِ. فَمِنْ ذَلِكَ صِفَةُ تَصْفِيرِهِ: يُؤْخَذُ ساذنج قَدْ شُوِيَتْ وَدُهِنَتْ عَلَى الِانْفِرَادِ، وراسخت قَدْ شُوِيَ بِمَاءِ المرنج الْمُدَبَّرِ سَبْعَ مَرَّاتٍ، وَزَاجَ وزنجفر مَشْوِيَّانِ بِمَاءِ الْعُقَابِ الْمَحْلُولِ فِي الْقَارُورَةِ، ثُمَّ يُجْمَعُ بَيْنَ الْجَمِيعِ فِي السَّحْقِ بَعْدَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُشْوَى قَدَحَانِ بِمَاءِ المرنج الْمَذْكُورِ سَبْعَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ بِمَاءِ الْعُقَابِ الْمَحْلُولِ سَبْعَ مَرَّاتٍ، فَإِنَّهُ يَنْعَقِدُ حَجَرًا أَحْمَرَ مِثْلَ الدَّمِ، يُلْقَى مِنْهُ دِرْهَمٌ عَلَى عَشَرَةِ دَرَاهِمَ قَمَرٍ يَرُدُّهُ شَمْسًا فِي عِيَارِ سِتَّةَ عَشَرَ، فَإِنْ حُلَّ هَذَا الْحَجَرُ الْإِكْسِيرُ الْأَحْمَرُ، ثُمَّ عُقِدَ صَارَ الْقَمَرُ فِي عِيَارِ عِشْرِينَ، يُفَرَّغُ مِنْهُ دَنَانِيرُ تُعْمَلُ مِنْهُ، وَيُعْمَلُ مِنْهُ مَصَاغًا. وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُ راسخت يَشْوِيه بِمَرَارَةِ الْبَقَرِ سَبْعًا، ثُمَّ يُضِيفُهُ إلَى مِثْلِهِ ذَهَبًا مُكَلَّسًا بِصُفْرَةِ الْكِبْرِيتِ الْمُسْتَخْرَجَةِ بِالْجِيرِ وَالْقِلَى، ثُمَّ يُشْوَى الْجَمِيعُ بِمَاءِ الْعُقَابِ الْمَحْلُولِ سَبْعًا، ثُمَّ يَدْهُنُهُ بِدُهْنِ زَعْفَرَانِ الطُّورِ سَبْعًا، فَإِنَّهُ يَنْعَقِدُ حَجَرًا مِثْلَ الْأَوَّلِ، فَإِنْ حَلَّهُ وَعَقَدَهُ صَارَ أَبْلَغُ مِنْ الْأَوَّلِ، يُقَارِبُ الْمَعْدِنِيَّ، وَالْمُلْقَى مِنْهُ قِيرَاطٌ عَلَى دِرْهَمِ قَمَرٍ. وَقَدْ يَعْمَلُونَ مِنْ الطَّبَّاخَاتِ والجلاوات أَشْيَاءُ يَطُولُ شَرْحُهَا، وَلَوْلاَ أَنِّي أَخَافُ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَى هَذَا السِّرِّ مَنْ لاَ دِينَ لَهُ، لاَوْضَحْت مِنْهُ جُمَلًا كَثِيرَةً، لاَ يَهْتَدِي إلَيْهَا كَثِيرٌ مِنْ الصَّاغَةِ. فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ مُرَاقَبَةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلاَ يُزْغِلُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا بِهَذَا وَلاَ بِغَيْرِهِ. فَإِنْ عَثَرَ الْمُحْتَسِبُ بِأَحَدٍ يَفْعَلُ هَذَا عَزَّرَهُ وَأَشْهَرَهُ، كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ. وَأَمَّا تُرَابُ دَكَاكِينِ الصَّاغَةِ وَرَمَادُهَا فَلاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ إلاَ بِالْفُلُوسِ، أَوْ بِعَرْضٍ مِنْ غَيْرِ الْفُلُوسِ، فَإِنَّهُ لاَ يَخْلُو مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ يَكُونُ فِيهِ، فَيُؤَدِّي إلَى الرِّبَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ..الْبَابُ الثَّانِي وَالثَّلاَثُونَ: فِي الْحِسْبَةِ عَلَى النَّحَّاسِينَ وَالْحَدَّادِينَ: لاَ يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَمْزُجُوا النُّحَاسَ بِالْحَبَقِ الَّذِي يَخْرُجُ لِلصَّبَّاغَةِ وَسَبَّاكِي الْفِضَّةِ عِنْدَ السَّبْكِ، فَإِنَّهُ يُصَلِّبُ النُّحَاسَ وَيَزِيدُهُ يُبْسًا، فَإِذَا أَفْرَغَ مِنْهُ طَاسَةً، أَوْ هَاوُنٍ انْكَسَرَ سَرِيعًا مِثْلُ الزُّجَاجِ. وَيَنْبَغِي أَلاَ يَمْزُجُوا النُّحَاسَ الْمَكْسُورَ مِنْ الْأَوَانِي وَغَيْرِهَا بِالنُّحَاسِ الْمَعْدِنِيِّ الَّذِي لَمْ يُسْتَعْمَلْ، بَلْ يُسَبَّكُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى انْفِرَادِهِ، وَيُعْمَلُ مُنْفَرِدًا..فَصْلٌ: أَمَّا الْحَدَّادُونَ فَلاَ يَضْرِبُونَ سِكِّينًا - وَلاَ مِقْرَاضًا وَلاَ مِخْصَفًا وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ - مِنْ الأرمهان، وَيَبِيعُونَهُ عَلَى أَنَّهُ فُولاَذٌ، فَإِنَّ ذَلِكَ تَدْلِيسٌ. وَلاَ يَخْلِطُونَ الْمَسَامِيرَ الرَّجِيعَةَ الْمُطَرَّقَةَ بِالْمَسَامِيرِ الْجَدِيدَةِ الضَّرْبِ. وَلاَ يَعْمَلُونَ إلاَ الْفُولاَذَ الْمُصَفَّى لِلسِّكِّينِ وَالْمِقَصِّ وَالْمُوسَى، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ..الْبَابُ الثَّالِثُ وَالثَّلاَثُونَ: فِي الْحِسْبَةِ عَلَى الْبَيَاطِرَةِ: الْبَيْطَرَةُ عِلْمٌ جَلِيلٌ سَطَّرَتْهُ الْفَلاَسِفَةُ فِي كُتُبِهِمْ، وَوَضَعُوا فِيهَا تَصَانِيفَ كَثِيرَةً. وَهِيَ أَصْعَبُ عِلاَجًا مِنْ أَمْرَاضِ الْآدَمِيِّينَ؛ لِأَنَّ الدَّوَابَّ لَيْسَ لَهَا نُطْقٌ تُعَبِّرُ بِهِ عَمَّا تَجِدُ مِنْ الْمَرَضِ وَالْأَلَمِ، وَإِنَّمَا يُسْتَدَلُّ عَلَى عِلَلِهَا بِالْجَسِّ وَالنَّظَرِ، فَيَفْتَقِرُ الْبَيْطَارُ إلَى حِذْقٍ وَبَصِيرَةٍ بِعِلَلِ الدَّوَابِّ وَعِلاَجِهَا؛ فَلاَ يَتَعَاطَى الْبَيْطَرَةَ إلاَ مَنْ لَهُ دِينٌ يَصُدُّهُ عَنْ التَّهَجُّمِ عَلَى الدَّوَابِّ بِفَصْدٍ، أَوْ قَطْعٍ، أَوْ كَيٍّ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ بِغَيْرِ مَخْبَرَةٍ، فَيُؤَدِّي إلَى هَلاَكِ الدَّابَّةِ، أَوْ عَطَبِهَا..فَصْلٌ: وَيَنْبَغِي لِلْبَيْطَارِ أَنْ يَنْظُرَ إلَى رُسْغِ الدَّابَّةِ، وَيَعْتَبِرَ حَافِرَهَا قَبْلَ تَقْلِيمِهِ، فَإِنْ كَانَ أَحْنَفَ، أَوْ مَائِلًا، نَسَفَ مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ قَدْرًا يَحْصُلُ بِهِ الِاعْتِدَالُ، وَإِنْ كَانَتْ يَدُ الدَّابَّةِ. قَائِمَةً جَعَلَ الْمَسَامِيرَ الْمُؤَخَّرَةَ صِغَارًا وَالْمُقَدَّمَةَ كِبَارًا، وَإِنْ كَانَتْ يَدُهَا بِالضِّدِّ مِنْ ذَلِكَ صَغَّرَ الْمُقَدَّمَةَ وَكَبَّرَ الْمُؤَخَّرَةَ. وَلاَ يُبَالِغُ الْبَيْطَارُ فِي نَسْفِ الْحَافِرِ فَتَغْمِسُ الدَّابَّةُ، وَلاَ يُرْخِي الْمَسَامِيرَ فَيَتَحَرَّكُ النَّعْلُ وَيَدْخُلُ تَحْتَهُ الْحَصَى وَالرَّمْلُ، فَتَرْهَصُ الدَّابَّةُ ؛ وَلاَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَشُدَّهَا قَوِيًّا عَلَى الْحَافِرِ فَتُزْمَنُ الدَّابَّةُ. وَاعْلَمْ أَنَّ النِّعَالَ الْمُطَرَّقَةَ أَلْزَمُ لِلْحَافِرِ، وَاللَّيِّنَةَ أَثْبُتُ لِلْمَسَامِيرِ الصُّلْبَةِ، وَالْمَسَامِيرَ الدَّقِيقَةَ خَيْرٌ مِنْ الْغَلِيظَةِ. وَإِذَا احْتَاجَتْ الدَّابَّةُ إلَى فَتْحِ عِرْقٍ أَخَذَ الْبَيْطَارُ الْمِبْضَعَ بَيْنَ إصْبَعَيْهِ، وَجَعَلَ نِصَابَهُ فِي رَاحَتِهِ، وَأَخْرَجَ مِنْ رَأْسِهِ مِقْدَارَ نِصْفِ ظُفْرٍ، ثُمَّ فَتَحَ الْعِرْقَ تَعْلِيقًا إلَى فَوْقٍ بِخِفَّةٍ وَرِفْقٍ. وَلاَ يَضْرِبُ الْبَيْطَارُ الْعِرْقَ حَتَّى يَجُسَّهُ بِإِصْبَعِهِ، سِيَّمَا عُرُوقِ الْأَوْدَاجِ، فَإِنَّهَا خَطِرَةٌ لِمُجَاوَرَتِهَا الْمَرِيءَ، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَفْتَحَ شَيْئًا مِنْ عُرُوقِ الْأَوْدَاجِ خَنَقَ الدَّابَّةَ خَنْقًا شَدِيدًا، حَتَّى تَبْدُرَ عُرُوقُ الْأَوْدَاجِ، فَيَتَمَكَّنَ حِينَئِذٍ مِمَّا أَرَادَ..فَصْلٌ: وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْبَيْطَارُ خَبِيرًا بِعِلَلِ الدَّوَابِّ، وَمَعْرِفَةِ مَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ، وَمَا يَحْدُثُ فِيهَا مِنْ الْعُيُوبِ، فَيَرْجِعُ النَّاسُ إلَيْهِ إذَا اخْتَلَفُوا فِي عَيْبِ الدَّابَّةِ. وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ فِي كِتَابِ الْبَيْطَرَةِ أَنَّ عِلَلَ الدَّوَابِّ ثَلاَثُمِائَةٍ وَعِشْرُونَ عِلَّةً، مِنْهَا الْخُنَّاقُ، وَالْخُنَانُ الرَّطْبُ، وَالْخُنَانُ الْيَابِسُ، وَالْجُنُونُ، وَفَسَادُ الدِّمَاغِ، وَالصُّدَاعُ، وَالْحُمْرُ، وَالنَّفْخَةُ، وَالْوَرَمُ، وَالْمُرَّةُ الْهَائِجَةُ، والديبة، وَالْخُشَامُ، وَوَجَعُ الْكَبِدِ، وَوَجَعُ الْقَلْبِ، وَالدُّودُ فِي الْبَطْنِ، وَالْمَغَلُ، وَالْمَغْسُ، وَرِيحُ السُّوسِ، وَالْقُضَاعُ، وَالصُّدَامُ، وَالسُّعَالُ الْبَارِدُ، وَالسُّعَالُ الْحَارُّ، وَانْفِجَارُ الدَّمِ مِنْ الدُّبُرِ وَالذَّكَرِ، والبحل، وَالْحَلَقُ، وَعُسْرُ الْبَوْلِ، وَوَجَعُ الْمَفَاصِلِ، وَالرَّهْصَةُ، وَالدَّخَسُ، وَالدَّاحِسُ، وَالنَّمْلَةُ، وَالنَّكَبُ، وَالْخُلْدُ، وَاللَّقْوَةُ، وَالْمَاءُ الْحَادِثُ فِي الْعَيْنِ، والمياخونة، وَرَخَاوَةُ الْأُذُنَيْنِ، وَالضَّرَسُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَطُولُ شَرْحُهُ، وَيَفْتَقِرُ الْبَيْطَارُ إلَى تَحْصِيلِ مَعْرِفَةِ عِلاَجِهِ، وَسَبَبِ حُدُوثِ هَذِهِ الْعِلَلِ. فَمِنْهَا مَا إذَا حَدَثَ فِي الدَّابَّةِ صَارَ عَيْبًا دَائِمًا، وَمِنْهَا مَا لَمْ يَصِرْ عَيْبًا دَائِمًا؛ وَلَوْلاَ التَّطْوِيلُ لَشَرَحْت مِنْ ذَلِكَ جُمَلًا وَتَفَاصِيلَ. فَلاَ يُهْمِلُ الْمُحْتَسِبُ امْتِحَانَ الْبَيْطَارِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَمُرَاعَاةَ فِعْلِهِ بِدَوَابِّ النَّاسِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ..الْبَابُ الرَّابِعُ وَالثَّلاَثُونَ: فِي الْحِسْبَةِ عَلَى نَخَّاسِي الْعَبِيدِ وَالدَّوَابّ: يَكُونُ النَّخَّاسُ ثِقَةً أَمِينًا عَادِلًا، مَشْهُورًا بِالْعِفَّةِ وَالصِّيَانَةِ؛ لِأَنَّهُ يَتَسَلَّمُ جِوَارِي النَّاسِ وَغِلْمَانِهِمْ، وَرُبَّمَا اخْتَلَى بِهِمْ فِي مَنْزِلِهِ. وَيَنْبَغِي أَلاَ يَبِيعَ النَّخَّاسُ لِأَحَدٍ جَارِيَةً وَلاَ عَبْدًا حَتَّى يَعْرِفَ الْبَائِعَ، أَوْ يَأْتِيَ بِمَنْ يَعْرِفُهُ، وَيَكْتُبُ اسْمَهُ وَصِفَتَهُ فِي دَفْتَرِهِ، لِئَلاَ يَكُونَ الْمَبِيعُ حُرًّا، أَوْ مَسْرُوقًا. وَمَنْ أَرَادَ شِرَاءَ جَارِيَةٍ، جَازَ لَهُ أَنْ يَنْظُرَ إلَى وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا، فَإِنْ طَلَبَ اسْتِعْرَاضَهَا فِي مَنْزِلِهِ وَالْخَلْوَةَ بِهَا فَلاَ يُمَكِّنُهُ النَّخَّاسُ مِنْ ذَلِكَ، إلاَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ نِسَاءٌ فِي مَنْزِلِهِ، فَيَنْظُرْنَ جَمِيعَ بَدَنِهَا؛ وَمَنْ أَرَادَ شِرَاءَ غُلاَمٍ، فَلَهُ أَنْ يَنْظُرَ مِنْهُ إلَى مَا فَوْقَ السُّرَّةِ وَدُونَ الرُّكْبَةِ. هَذَا كُلُّهُ قَبْلَ عَقْدِ الْبَيْعِ، فَأَمَّا بَعْدَهُ فَلَهُ أَنْ يَنْظُرَ إلَى جَمِيعِ بَدَنِ الْجَارِيَةِ. وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ الْجَارِيَةِ وَوَلَدِهَا قَبْلَ سَبْعِ سِنِينَ؛ وَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ الْجَارِيَةِ، أَوْ الْمَمْلُوكِ إذَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، إلاَ أَنْ يَعْلَمَ النَّخَّاسُ يَقِينًا أَنَّ الْمَمْلُوكَ لَيْسَ بِمُسْلِمٍ؛ وَمَتَى عَلِمَ أَنَّ بِالْمَبِيعِ عَيْبًا وَجَبَ عَلَيْهِ بَيَانُهُ لِلْمُشْتَرِي، كَمَا ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ..فَصْلٌ: وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ النَّخَّاسُ بَصِيرًا بِالْعُيُوبِ، خَبِيرًا بِابْتِدَاءِ الْعِلَلِ وَالْأَمْرَاضِ؛ فَإِذَا أَرَادَ بَيْعَ غُلاَمٍ نَظَرَ إلَى جَمِيعِ جَسَدِهِ سِوَى عَوْرَتَهُ قَبْلَ بَيْعِهِ، وَيَعْتَبِرُ ذَلِكَ لِئَلاَ يَكُونَ فِيهِ عَيْبٌ، أَوْ عِلَّةٌ فَيُخْبِرُ بِهِ الْمُشْتَرِيَ. فَأَوَّلُ مَا يَنْظُرُ إلَى وَجْهِهِ، فَإِنْ كَانَ مَائِلَ اللَّوْنِ إلَى الصُّفْرَةِ، أَوْ الْغُبْرَةِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى مَرَضٍ، أَوْ عِلَّةٍ فِي الْكَبِدِ، أَوْ الطِّحَالِ، أَوْ الْبَوَاسِيرِ، (بِمَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ. وَيَنْبَغِي لِلدَّلاَلِ أَلاَ يَبِيعَ دَابَّةً حَتَّى يَعْرِفَ الْبَائِعَ، أَوْ يَأْتِيَ بِمَنْ يَعْرِفَهُ، وَيَكْتُبَ اسْمَهُ فِي دَفْتَرِهِ كَمَا قُلْنَا أَوَّلًا، لِئَلاَ تَكُونَ الدَّابَّةُ مَعِيبَةً، أَوْ مَسْرُوقَةً، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ..الْبَابُ الْخَامِسُ وَالثَّلاَثُونَ: فِي الْحِسْبَةِ عَلَى الْحَمَّامَاتِ وَقَوَّمْتهَا: قَدْ ذَكَرْنَا فِي هَذَا الْبَابِ - وَفِي الَّذِي قَبْلَهُ - أَشْيَاءَ لَيْسَتْ مِنْ قَبِيلِ الْحِسْبَةِ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَاهَا لِعُمُومِ الِانْتِفَاعِ بِمَعْرِفَتِهَا، وَهِيَ لاَئِقَةٌ بِهَذَا الْمَكَانِ. وَلَعَمْرِي إنَّ الْحِكْمَةَ ضَالَّةُ كُلِّ حَكِيمٍ، وَالْفَائِدَةَ حَسَنَةٌ حَيْثُ وُجِدَتْ. قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: خَيْرُ الْحَمَّامَاتِ مَا قَدُمَ بِنَاؤُهُ، وَاتَّسَعَ هَوَاؤُهُ، وَعَذُبَ مَاؤُهُ، وَقَدَّرَ الْأَتَانُ وَقُودَهُ بِقَدْرِ مِزَاجِ مَنْ أَرَادَ وُرُودَهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْفِعْلَ الطَّبِيعِيَّ لِلْحَمَّامِ هُوَ التَّسْخِينُ بِهَوَائِهِ، وَالتَّرْطِيبُ بِمَائِهِ؛ فَالْبَيْتُ الْأَوَّلُ مُبَرِّدٌ مُرَطِّبٌ، وَالْبَيْتُ الثَّانِي مُسَخِّنٌ مُرْخٍ، وَالْبَيْتُ الثَّالِثُ مُسَخِّنٌ مُجَفِّفٌ. وَالْحَمَّامُ يَشْتَمِلُ عَلَى مَنَافِعَ وَمَضَارَّ، فَأَمَّا مَنَافِعُهَا فَتَوْسِيعُ الْمَسَامِّ وَاسْتِفْرَاغُ الْفَضَلاَتِ، وَهِيَ تُحَلِّلُ الرِّيَاحَ، وَتَحْبِسُ الطَّبْعَ إذَا كَانَتْ سُهُولَتُهُ عَنْ هَيْضَةٍ، وَتُنَظِّفُ الْوَسَخَ وَالْعَرَقَ، وَتُذْهِبُ الْحَكَّةَ وَالْجَرَبَ وَالْإِعْيَاءَ، وَتُرَطِّبُ الْبَدَنَ، وَتُجَوِّدُ الْهَضْمَ، وَتُنْضِجُ النَّزَلاَتِ وَالزُّكَامَ، وَتَنْفَعُ مِنْ حُمَّى يَوْمٍ، وَمِنْ حُمَّى الدَّقِّ وَالرَّبَعِ بَعْدَ نُضْجِ خَلْطِهَا. وَأَمَّا مَضَارُّهَا فَإِنَّهَا تُرْخِي الْجَسَدَ، وَتُضْعِفُ الْحَرَارَةَ عِنْدَ طُولِ الْمُقَامِ فِيهَا، وَتُسْقِطُ شَهْوَةَ الطَّعَامِ، وَتُضْعِفُ الْبَاهَ؛ وَأَعْظَمُ مَضَارِّهَا صَبُّ الْمَاءِ الْحَارِّ عَلَى الْأَعْضَاءِ الضَّعِيفَةِ. وَقَدْ تُسْتَعْمَلُ الْحَمَّامُ عَلَى الرِّيقِ وَالْخُلُوِّ، فَتُجَفِّفُ تَجْفِيفًا شَدِيدًا، وَتَهْزِلُ الْبَدَنَ وَتُضْعِفُهُ. وَقَدْ تُسْتَعْمَلُ الْحَمَّامُ عَلَى قُرْبِ عَهْدٍ بِالشِّبَعِ، فَتُسَمِّنُ الْبَدَنَ، إلاَ أَنَّهَا تُحْدِثُ سَدَدًا. وَأَجْوَدُ مَا اُسْتُعْمِلَ الْحَمَّامُ عَلَى الشِّبَعِ بَعْدَ الْهَضْمِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّهُ يُرَطِّبُ الْبَدَنَ، وَيُسَمِّنُهُ، وَيُحَسِّنُ بَشَرَتَهُ..فَصْلٌ: وَيَنْبَغِي أَنْ يَأْمُرَهُمْ الْمُحْتَسِبُ بِغَسْلِ الْحَمَّامِ وَكَنْسِهَا وَتَنْظِيفِهَا بِالْمَاءِ الطَّاهِرِ، غَيْرِ مَاءِ الْغَسَّالَةِ، يَفْعَلُونَ ذَلِكَ مِرَارًا فِي الْيَوْمِ. وَيُدَلِّكُونَ الْبَلاَطَ بِالْأَشْيَاءِ الْخَشِنَةِ، لِئَلاَ يَتَعَلَّقَ بِهِ السِّدْرُ وَالْخِطْمِيُّ وَالصَّابُونُ، فَتَزْلَقُ أَرْجُلُ النَّاسِ عَلَيْهَا. وَيَغْسِلُونَ الْخِزَانَةَ مِنْ الْأَوْسَاخِ الْمُجْتَمَعَةِ فِي مَجَارِيهَا، وَالْعَكَرِ الرَّاكِدِ فِي أَسْفَلِهَا فِي كُلِّ شَهْرٍ مَرَّةً؛ لِأَنَّهَا إنْ تُرِكَتْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ تَغَيَّرَ الْمَاءُ فِيهَا فِي الطَّعْمِ وَالرَّائِحَةِ. وَإِذَا أَرَادَ الْقَيِّمُ الصُّعُودَ إلَى الْخِزَانَةِ لِفَتْحِ الْمَاءِ إلَى الْأَحْوَاضِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَغْسِلَ رِجْلَيْهِ بِالْمَاءِ ثُمَّ يَصْعَدَ، لِئَلاَ يَكُونَ قَدْ خَاضَ فِي الْغَسَّالاَتِ. وَلاَ يَسُدُّ الْأَنَابِيبَ بِشَعْرِ الْمَشَّاطَةِ، بَلْ يَسُدُّهَا بِاللِّيفِ وَالْخِرَقِ الطَّاهِرَةِ، لِيَخْرُجَ مِنْ الْخِلاَفِ. وَيُشْعِلُ فِيهَا الْبَخُورَ فِي كُلِّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ، سِيَّمَا إذَا شَرَعَ فِي غَسْلِهَا وَكَنْسِهَا. وَمَتَى بَرَدَتْ الْحَمَّامُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُبَخِّرَهَا الْقِيَمُ بِالْخُزَامَى، فَإِنَّ دُخَانَهَا يُحَمِّي هَوَاءَهَا، وَيُطَيِّبُ رَائِحَتَهَا. وَلاَ يَحْبِسُ مَاءَ الْغَسَّالاَتِ فِي مَسِيلِ الْحَمَّامِ، لِئَلاَ تَفُوحَ رَائِحَتُهَا؛ وَلاَ يَدَعُ الْأَسَاكِفَةَ وَغَيْرَهُمْ يَصْبُغُونَ الْجُلُودَ فِي الْحَمَّامِ، فَإِنَّ النَّاسَ يَتَضَرَّرُونَ بِرَائِحَةِ الدِّبَاغَةِ؛ وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَدْخُلَ الْمَجْذُومُ وَالْأَبْرَصُ إلَى الْحَمَّامِ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِلْحَمَّامِيِّ ميازر يُؤَجِّرُهَا لِلنَّاسِ، أَوْ يُعِيرُهَا لَهُمْ، فَإِنَّ الْغُرَبَاءَ وَالضُّعَفَاءَ قَدْ يَحْتَاجُونَ إلَى ذَلِكَ. وَيَأْمُرُهُمْ الْمُحْتَسِبُ بِفَتْحِ الْحَمَّامِ فِي السَّحَرِ، لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَيْهَا لِلتَّطَهُّرِ فِيهَا قَبْلَ وَقْتِ الصَّلاَةِ؛ وَيُلْزِمُ النَّاطُورَ حِفْظَ ثِيَابِ النَّاسِ، فَإِنْ ضَاعَ مِنْهَا شَيْءٌ لَزِمَهُ ضَمَانُهُ، عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه..فَصْلٌ: وَيَكُونُ الْمُزَيِّنُ - وَهُوَ الْبَلاَنُ - خَفِيفًا رَشِيقًا بَصِيرًا بِالْحِلاَقَةِ، وَيَكُونُ حَدِيدُهُ رَطْبًا قَاطِعًا، وَلاَ يَسْتَقْبِلُ الرَّأْسَ وَمَنَابِتَ الشَّعْرِ اسْتِقْبَالًا. وَلاَ يَأْكُلُ الْمُزَيِّنُ مَا يُغَيِّرُ نَكْهَتِهِ، كَالْبَصَلِ وَالثُّومِ وَالْكُرَّاثِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، لِئَلاَ يَتَضَرَّرَ النَّاسُ بِرَائِحَةٍ فِيهِ عِنْدَ الْحِلاَقَةِ. وَيَبْغِي أَنْ يَحْلِقَ الْجَبِينَ وَالصُّدْغَيْنِ عَلَى مَا يَلِيقُ بِالْحَالِ، وَلاَ يَحْلِقَ شَعْرَ صَبِيٍّ إلاَ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ، وَلاَ يَحْلِقَ عِذَارَ أَمْرَدَ وَلاَ لِحْيَةَ مُخَنَّثٍ. وَيَأْمُرُ الْمُحْتَسِبُ الْمُدَلِّكَ أَنْ يُدَلِّكَ يَدَهُ بِقُشُورِ الرُّمَّانِ، لِتَصِيرَ خَشِنَةً، فَتُخْرِجُ الْوَسَخَ، وَيَسْتَلِذُّ بِهَا الْإِنْسَانُ؛ وَيُمْنَعُ مِنْ دُلُوكِ الْبَاقِلاَ وَالْعَدَسِ فِي الْحَمَّامِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ طَعَامٌ، فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُمْتَهَنَ..فَصْلٌ: وَيَلْزَمُ الْمُحْتَسِبَ أَنْ يَتَفَقَّدَ الْحَمَّامَ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِرَارًا، وَيَعْتَبِرَ مَا ذَكَرْنَاهُ؛ وَإِنْ رَأَى أَحَدًا قَدْ كَشَفَ عَوْرَتَهُ عَزَّرَهُ عَلَى كَشْفِهَا؛ لِأَنَّ كَشْفَ الْعَوْرَةِ حَرَامٌ، وَقَدْ «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم النَّاظِرَ وَالْمَنْظُورَ إلَيْهِ»، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ..الْبَابُ السَّادِسُ وَالثَّلاَثُونَ: فِي الْحِسْبَةِ عَلَى الفصادين وَالْحَجَّامِينَ: لاَ يَتَصَدَّى لِلْفَصْدِ إلاَ مَنْ اشْتَهَرَتْ مَعْرِفَتُهُ بِتَشْرِيحِ الْأَعْضَاءِ وَالْعُرُوقِ وَالْعَضَلِ وَالشَّرَايِينِ، وَأَحَاطَ بِمَعْرِفَةِ تَرْكِيبِهَا وَكَيْفِيَّتِهَا، لِئَلاَ يَقَعَ الْمِبْضَعُ فِي عِرْقٍ غَيْرِ مَقْصُودٍ أَوْ فِي عَضَلَةٍ أَوْ شِرْيَانٍ، فَيُؤَدِّي إلَى زَمَانَةِ الْعُضْوِ وَهَلاَكِ الْمَقْصُودِ؛ فَكَثِيرٌ هَلَكَ مِنْ ذَلِكَ. وَمَنْ أَرَادَ تَعَلُّمَ الْفَصْدِ فَلْيُدْمِنْ فَصْدَ وَرَقِ الشَّلْقِ - أَعْنِي الْعُرُوقَ الَّتِي فِي الْوَرَقَةِ - حَتَّى تَسْتَقِيمَ يَدُهُ. وَيَنْبَغِي لِلْفَاصِدِ أَنْ يَمْنَعَ نَفْسَهُ مِنْ عَمَلِ صِنَاعَةٍ مَهِينَةٍ، تُكْسِبُ أَنَامِلَهُ صَلاَبَةً وَعُسْرَ حِسٍّ، لاَ يَتَأَتَّى مَعَهَا نَبْشُ الْعُرُوقِ؛ وَأَنْ يُرَاعِيَ بَصَرَهُ بِالْأَكْحَالِ الْمُقَوِّيَةِ لَهُ والأيارجات، إنْ كَانَ مِمَّنْ يَحْتَاجُ إلَيْهَا؛ وَأَلاَ يَفْصِدَ عَبْدًا إلاَ بِإِذْنِ مَوْلاَهُ، وَلاَ صَبِيًّا إلاَ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ، وَلاَ حَامِلًا وَلاَ طَامِثًا؛ وَأَلاَ يَفْصِدَ إلاَ فِي مَكَان مُضِيءٍ وَبِآلَةٍ مَاضِيَةٍ؛ وَأَلاَ يَفْصِدَ وَهُوَ مُنْزَعِجُ الْجَنَانِ. وَبِالْجُمْلَةِ يَنْبَغِي لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهِمْ الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ أَلاَ يَفْصِدُوا فِي عَشَرَةِ أَمْزِجَةٍ، وَلْيَحْذَرُوا فِيهَا حَذَرًا، إلاَ بَعْدَ مُشَاوَرَةِ الْأَطِبَّاءِ، وَهِيَ: فِي السِّنِّ الْقَاصِرِ عَنْ الرَّابِعَ عَشَرَ، وَفِي سِنِّ الشَّيْخُوخَةِ، وَفِي الْأَبْدَانِ الشَّدِيدَةِ الْقَضَافَةِ، وَفِي الْأَبْدَانِ الشَّدِيدَةِ السِّمَنِ، وَفِي الْأَبْدَانِ الْمُتَخَلْخِلَةِ، وَفِي الْأَبْدَانِ الْبِيضِ الْمُرْهِلَةِ، وَفِي الْأَبْدَانِ الصُّفْرِ الْعَدِيمَةِ الدَّمِ، وَفِي الْأَبْدَانِ الَّتِي طَالَتْ بِهَا الْأَمْرَاضُ، وَفِي الْمِزَاجِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ، وَعِنْدِ الْوَجَعِ الشَّدِيدِ؛ فَهَذِهِ الْأَحْوَالُ يَجِبُ أَنْ تُكْشَفَ عَلَى الْفَاصِدِ عِنْدَ وُجُودِهَا. وَقَدْ نَهَتْ الْأَطِبَّاءُ عَنْ الْفَصْدِ فِي خَمْسَةِ أَحْوَالٍ أَيْضًا، وَلَكِنَّ مَضَرَّتَهُ دُونَ مَضَرَّةِ الْعَشَرَةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا؛ فَالْحَالَةُ الْأُولَى الْفَصْدُ عَقِيبَ الْجِمَاعِ، وَبَعْدَ الِاسْتِحْمَامِ الْمُحَلَّلِ، وَفِي حَالِ الِامْتِلاَءِ مِنْ الطَّعَامِ، وَفِي حَالَةِ امْتِلاَءِ الْمَعِدَةِ وَالْأَمْعَاءِ مِنْ الثِّقَلِ، وَفِي حَالَةِ شِدَّةِ الْبَرْدِ وَالْحَرِّ؛ فَهَذِهِ أَحْوَالٌ يُتَوَقَّى الْفَصْدُ فِيهَا أَيْضًا..فَصْلٌ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَعَ الْفَاصِدِ مَبَاضِعُ كَثِيرَةٌ، مِنْ ذَوَاتِ الشَّعِيرَةِ وَغَيْرِهَا؛ وَأَنْ يَكُونَ مَعَهُ كَبَّةٌ مِنْ حَرِيرٍ أَوْ خَزٍّ، أَوْ شَيْءٌ مِنْ آلَةِ الْقَيْءِ، مِنْ خَشَبٍ أَوْ رِيشٍ. وَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُون مَعَهُ وَبَرُ الْأَرْنَبِ، وَدَوَاءُ الصَّبْرِ والكندر، وَصِفَتُهُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ الكندر وَالصَّبْرِ وَالْمُرِّ وَدَمِ الْأَخَوَيْنِ، مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ جُزْءٌ، وَمِنْ القلقطار وَالزَّاجِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ نِصْفُ جُزْءٍ؛ وَيُجْمَعُ الْجَمِيعُ، وَيُعْمَلُ كَالْمَرْهَمِ؛ وَيَرْفَعُهُ الْفَاصِدُ عِنْدَهُ لِوَقْتِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ. وَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَعَهُ نَافِجَةُ مِسْكٍ وَأَقْرَاصُ الْمِسْكِ، وَيَعْتَدُّ بِجَمِيعِ مَا ذَكَرْنَاهُ، حَتَّى إذَا عَرَضَ لِلْمَفْصُودِ غَشْيٌ بَادَرَ فَأَلْقَمَ الْمَوْضِعَ كُبَّةَ الْحَرِيرِ، وَأَلْقَمَهُ بِآلَةِ الْقَيْءِ، وَشَمَّمَهُ النَّافِجَةَ، وَجَرَّعَهُ مِنْ أَقْرَاصِ الْمِسْكِ شَيْئًا، فَتَنْعَشُ قُوَّتُهُ بِذَلِكَ. وَإِنْ حَدَثَ فُتُوقُ دَمٍ، مِنْ عِرْقٍ أَوْ شَرْيَانَ، حَشَاهُ الْفَاصِدُ بِوَبَرِ الْأَرْنَبِ وَدَوَاءِ الكندر الْمَذْكُورِ. وَلاَ يَضْرِبُ الْفَاصِدُ بِمِبْضَعِ كَالٍّ، فَإِنَّهُ كَبِيرُ الْمَضَرَّةِ؛ لِأَنَّهُ يُخْطِئُ فَلاَ يَلْحَقُ الْعِرْقَ، فَيُورَمَ وَيُوجِعَ. وَلْيَمْسَحْ رَأْسَ مِبْضَعِهِ بِالزَّيْتِ، فَإِنَّهُ لاَ يُوجِعُ عِنْدَ الْبَضْعِ، غَيْرُ أَنَّهُ لاَ يَلْتَحِمُ سَرِيعًا. وَإِذَا أَخَذَ الْمِبْضَعَ فَلْيَأْخُذْهُ بِالْإِبْهَامِ وَالْوُسْطَى، وَيَتْرُكُ السَّبَّابَةَ لِلْجَسِّ؛ وَيَكُونُ الْأَخْذُ عَلَى نِصْفِ الْمِبْضَعِ، وَلاَ يَكُونُ فَوْقَ ذَلِكَ، فَيَكُونَ التَّمَكُّنُ مِنْهُ مُضْطَرِبًا. وَلاَ يُدْفَعُ الْمِبْضَعُ بِالْيَدِ غَمْزًا، بَلْ يُدْفَعُ بِالِاخْتِلاَسِ، لِيُوصَلَ طَرَفُ الْمِبْضَعِ حَشْوَ الْعُرُوقِ. وَلَمْ أَرَ فِي صِنَاعَةِ الْفَصْدِ أَحْذَقَ مِنْ رَجُلَيْنِ رَأَيْتهمَا بِمَدِينَةِ حَلَبَ، افْتَخَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِالْحِذْقِ؛ فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَإِنَّهُ لَبِسَ غِلاَلَةً، وَشَدَّ يَدَهُ مِنْ فَوْقِ الْغِلاَلَةِ، وَانْغَمَسَ فِي بِرْكَةٍ، ثُمَّ فَصَدَ يَدَهُ فِي قَاعِ الْمَاءِ مِنْ فَوْقِ الْغِلاَلَةِ؛ وَأَمَّا الْآخَرُ فَمَسَكَ الْمِبْضَعَ بِإِبْهَامِ رِجْلِهِ الْيُسْرَى، ثُمَّ فَصَدَ يَدَهُ وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُوَسِّعَ الْفَاصِدُ الْبَضْعَ فِي الشِّتَاءِ، لِئَلاَ يَجْمُدَ الدَّمُ، وَيُضَيِّقَ فِي الصَّيْفِ، لِئَلاَ يُسْرِعَ إلَى الْغَشْيِ. وَتَثْنِيَةُ الْفَصْدِ تَحْفَظُ قُوَّةَ الْمَفْصُودِ، فَمَنْ أَرَادَهَا فِي يَوْمِهِ فَلْيَشُقَّ الْعِرْقَ مُوَرِّبًا، لِئَلاَ يَلْتَحِمَ سَرِيعًا؛ وَأَجْوَدُ التَّثْنِيَةِ مَا أُخِّرَ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةً. وَمَتَى تَغَيَّرَ لَوْنُ الدَّمِ، أَوْ حَدَثَ غَشْيٌ وَضَعْفٌ فِي النَّبْضِ، فَلْيُبَادِرْ الْفَاصِدُ إلَى شَدِّ الْعِرْقِ وَمَسْكِهِ..فَصْلٌ: وَاعْلَمْ أَنَّ الْعُرُوقَ الْمَفْصُودَةَ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا عُرُوقٌ فِي الرَّأْسِ، وَعُرُوقٌ فِي الْيَدَيْنِ، وَعُرُوقٌ فِي الْبَدَنِ، وَعُرُوقٌ فِي الرِّجْلَيْنِ، وَعُرُوقٌ فِي الشَّرَايِينِ؛ فَيَمْتَحِنُهُمْ الْمُحْتَسِبُ بِمَعْرِفَتِهَا، وَبِمَا يُجَاوِرُهَا مِنْ الْعَضَلِ وَالشَّرَايِينِ. وَسَأَذْكُرُ مَا اُشْتُهِرَ مِنْهَا: أَمَّا عُرُوقُ الرَّأْسِ الْمَفْصُودَةِ، فَعِرْقُ الْجَبْهَةِ، وَهُوَ الْمُنْتَصِبُ مَا بَيْنَ الْحَاجِبَيْنِ، وَفَصْدُهُ يَنْفَعُ مِنْ ثِقَلِ الْعَيْنَيْنِ وَالصُّدَاعِ الدَّائِمِ؛ وَمِنْهَا الْعِرْقُ الَّذِي فَوْقَ الْهَامَةِ، وَفَصْدُهُ يَنْفَعُ مِنْ الشَّقِيقَةِ وَقُرُوحِ الرَّأْسِ؛ وَمِنْهَا الْعِرْقَانِ الْمَلْوِيَّانِ عَلَى الصُّدْغَيْنِ، وَفَصْدُهُمَا يَنْفَعُ مِنْ الرَّمَدِ وَالدَّمْعَةِ وَجَرَبِ الْأَجْفَانِ وَبُثُورِهَا؛ وَمِنْهَا عِرْقَانِ خَلْفَ الْأُذُنَيْنِ، يُفْصَدَانِ لِقَطْعِ النَّسْلِ، فَيُحَلِّفُهُمْ الْمُحْتَسِبُ أَلاَ يَفْصِدُوا وَاحِدًا فِيهِمَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَقْطَعُ النَّسْلَ، وَقَطْعُ النَّسْلِ حَرَامٌ؛ وَمِنْهَا عُرُوقُ الشَّفَةِ، وَفَصْدُهَا يَنْفَعُ مِنْ قُرُوحِ الْفَمِ وَالْقِلاَعِ وَأَوْجَاعِ اللِّثَة وَأَوْرَامِهَا؛ وَمِنْهَا الْعُرُوقُ الَّتِي تَحْتَ اللِّسَانِ، وَفَصْدُهَا يَنْفَعُ مِنْ الْخَوَانِيقِ وَأَوْرَامِ اللَّوْزَتَيْنِ..فَصْلٌ: وَأَمَّا عُرُوقُ الْيَدَيْنِ فَسِتَّةٌ، وَهِيَ الْقِيفَالُ، وَالْأَكْحَلُ، والباسليق، وَحَبْلُ الذِّرَاعِ، وَالْأُسَيْلِمُ، وَالْإِبْطِيُّ - وَهُوَ شُعْبَةٌ مِنْ الباسليق؛ وَأَسْلَمُ هَذِهِ الْعُرُوقِ الْقِيفَالُ. وَيَنْبَغِي عَلَى الْفَاصِدِ أَنْ يُنَحِّيَ فِي فَصْدِهِ عَنْ رَأْسِ الْعَضَلَةِ إلَى مَوْضِعٍ لِينٍ، وَيُوَسِّعَ بَضْعَهُ إنْ أَرَادَ أَنْ يُثَنِّيَ. وَأَمَّا الْأَكْحَلُ فَفِي فَصْدِهِ خَطَرٌ عَظِيمٌ، لِأَجْلٍ الْعَضَلَةِ الَّتِي تَحْتَهُ، فَرُبَّمَا وَقَعَتْ بَيْنَ عَصْبَتَيْنِ، وَرُبَّمَا كَانَ فَوْقَهَا عَصَبَةٌ دَقِيقَةٌ مُدَوَّرَةٌ كَالْوَتْرِ؛ فَيَجِبُ عَلَى الْفَاصِدِ أَنْ يَعْرِفَ ذَلِكَ وَيَتَجَنَّبَهُ فِي حَالِ الْفَصْدِ، وَيَحْتَاطَ أَنْ تُصِيبَهُ الضَّرْبَةُ، فَيَحْدُثُ مِنْهَا خَدْرٌ مُزْمِنٌ. وَأَمَّا الباسليق فَعَظِيمُ الْخَطَرِ أَيْضًا، لِوُقُوعِ الشِّرْيَانِ تَحْتَهُ، فَيَجِبُ عَلَى الْفَاصِدِ أَنْ يَحْتَاطَ لِذَلِكَ، فَإِنَّ الشِّرْيَانَ إذَا بُضِعَ لَمْ يُرْقَأْ دَمُهُ. وَأَمَّا الْأُسَيْلِمُ، فَالْأَصْوَبُ أَنْ يُفْصَدَ طُولًا؛ وَحَبْلُ الذِّرَاعِ يُفْصَدُ مُوَرِّبًا؛ وَكُلَّمَا انْحَدَرَ الْفَاصِدُ فِي فَصْدِ الباسليق إلَى الذِّرَاعِ كَانَ أَسْلَمَ..فَصْلٌ: وَأَمَّا عُرُوقُ الْبَدَنِ، فَعِرْقَانِ عَلَى الْبَطْنِ، أَحَدُهُمَا مَوْضُوعٌ عَلَى الْكَبِدِ، وَالْآخَرُ مَوْضُوعٌ عَلَى الطِّحَالِ؛ وَ يَنْفَعُ فَصْدُ الْأَيْمَنِ مِنْهُمَا لِلِاسْتِسْقَاءِ، وَالْأَيْسَرُ يَنْفَعُ لِلطِّحَالِ..فَصْلٌ: وَأَمَّا عُرُوقُ الرِّجْلَيْنِ، فَأَرْبَعَةٌ، مِنْهَا عِرْقُ النَّسَا، وَيُفْصَدُ عِنْدَ الْجَانِبِ الْوَحْشِيِّ مِنْ الْكَعْبِ، فَإِنْ خَفِيَ فَلْتُفْصَدْ الشُّعْبَةُ الَّتِي بَيْنَ الْخِنْصَرِ وَالْبِنْصِرِ مِنْ الْقَدَمِ ؛ وَمَنْفَعَةُ ذَلِكَ عَظِيمَةٌ، سِيَّمَا فِي النِّقْرِسِ وَالدَّوَالِي وَدَاءِ الْفِيلِ. وَمِنْهَا عِرْقُ الصَّافِنِ، وَهُوَ عَلَى الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ مِنْ السَّاقِ، وَهُوَ أَظْهَرُ مِنْ عِرْقِ النَّسَا، وَفَصْدُهُ يَنْفَعُ مِنْ الْبَوَاسِيرِ، وَيَدِرُّ الطَّمْثَ، وَيَنْفَعُ الْأَعْضَاءَ الَّتِي تَحْتَ الْكَبِدِ. وَمِنْهَا عِرْقٌ مَأْبِضٌ تَحْتَ الرُّكْبَةِ، وَهُوَ مِثْلُ الصَّافِنِ فِي النَّفْعِ. وَمِنْهَا الْعِرْقُ الَّذِي خَلْفَ الْعُرْقُوبِ، وَكَأَنَّهُ شُعْبَةٌ مِنْ الصَّافِنِ، وَمَنْفَعَةُ فَصْدِهِ مِثْلُ الصَّافِنِ..فَصْلٌ: وَأَمَّا الْعُرُوقُ وَالشَّرَايِينُ الْمَفْصُودَةُ فِي الْغَالِبِ، وَيَجُوزُ فَصْدُهَا، فَهِيَ الصِّغَارُ وَالْبَعِيدَةُ مِنْ الْقَلْبِ، فَإِنَّ هَذِهِ هِيَ الَّتِي يَرْقَأُ دَمُهَا إذَا فُصِدَتْ. وَأَمَّا الشَّرَايِينُ الْكِبَارُ الْقَرِيبَةُ الْوَضْعِ مِنْ الْقَلْبِ، فَإِنَّهُ لاَ يَرْقَأُ دَمُهَا إذَا فُصِدَتْ، وَاَلَّتِي يَجُوزُ فَصْدُهَا مِنْهَا - عَلَى الْأَكْثَرِ - شِرْيَانُ الصُّدْغَيْنِ، وَالشِّرْيَانَانِ اللَّذَانِ بَيْنَ الْإِبْهَامِ وَالسَّبَّابَةِ؛ وَقَدْ أَمَرَ جَالِينُوسُ بِفَصْدِهَا فِي الْمَنَامِ..فَصْلٌ: وَالْحِجَامَةُ عَظِيمَةُ الْمَنْفَعَةِ، وَهِيَ أَقَلُّ خَطَرًا مِنْ الْفِصَادَةِ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْحَجَّامُ خَفِيفًا رَشِيقًا، خَبِيرًا بِالصِّنَاعَةِ، فَيُخِفُّ يَدَهُ فِي الشُّرُوطِ وَيَسْتَعْجِلُ، ثُمَّ يُعَلِّقُ الْمِحْجَمَةَ. وَتَكُونُ التَّعْلِيقَةُ الْأُولَى خَفِيفَةً سَرِيعَةَ الْقَلْعِ، ثُمَّ يَتَدَرَّجُ إلَى الْقَلْعِ بِإِبْطَاءٍ وَإِمْهَالٍ. وَيَنْبَغِي لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَمْتَحِنَ الْحَجَّامَ بِوَرَقَةٍ يُلْصِقُهَا عَلَى آجُرَّةٍ، ثُمَّ يَأْمُرُهُ بِشَرْطِهَا، فَإِنْ نَفَذَ الشَّرْطُ كَانَ ثَقِيلَ الْيَدِ سَيِّئَ الصِّنَاعَةِ؛ وَعَلاَمَةُ حِذْقِ الْحَجَّامِ خِفَّةُ يَدِهِ، وَأَلاَ يُوجِعَ الْمَحْجُومَ..فَصْلٌ: وَقَدْ ذَكَرَتْ الْحُكَمَاءُ أَنَّ الْحِجَامَةَ تُكْرَهُ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ وَفِي آخِرِهِ؛ لِأَنَّ الْأَخْلاَطَ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ لاَ تَكُونُ قَدْ تَحَرَّكَتْ وَلاَ هَاجَتْ، وَفِي آخِرِهِ تَكُونُ قَدْ نَقَصَتْ، فَلاَ تُفِيدُ الْحِجَامَةُ شَيْئًا. وَإِنَّمَا تُسْتَحَبُّ الْحِجَامَةُ وَسَطَ الشَّهْرِ، إذَا تَكَامَلَ النُّورُ فِي جُرْمِ الْقَمَرِ، لِأَنَّ الْأَخْلاَطَ تَكُونُ هَائِجَةً، وَتَكُونُ الْأَدْمِغَةُ زَائِدَةً فِي الْأَقْحَافِ؛ وَأَفْضَلُ أَوْقَاتِ الْحِجَامَةِ السَّاعَةُ الثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ مِنْ النَّهَارِ..فَصْلٌ: وَأَمَّا مَنَافِعُ الْحِجَامَةِ، فَإِنَّهَا عَلَى النُّقْرَةِ خَلِيفَةُ فَصْدِ الْأَكْحَلِ، وَتَنْفَعُ مِنْ ثِقَلِ الْحَاجِبَيْنِ، وَجَرَبِ الْعَيْنَيْنِ، وَالْبَخَرِ فِي الْفَمِ؛ غَيْرُ أَنَّهَا تُورِثُ النِّسْيَانَ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «إنَّ مُؤَخَّرَ الدِّمَاغِ مَوْضِعُ الْحِفْظِ، وَتُضْعِفُهُ الْحِجَامَةُ». وَالْحِجَامَةُ عَلَى الْأَكْحَلِ خَلِيفَةُ فَصْدُ الباسليق، وَتَنْفَعُ مِنْ وَجَعِ الْمَنْكِبِ وَالْحَلْقِ، غَيْرُ أَنَّهَا تُضْعِفُ فَمَ الْمَعِدَةِ. وَالْحِجَامَةُ فِي الْأَخْدَعَيْنِ خَلِيفَةُ فَصْدِ الْقِيفَالِ، وَتَنْفَعُ الْوَجْهَ وَالْأَسْنَانَ وَالْأَضْرَاسَ، وَالْعَيْنَيْنِ وَالْأُذُنَيْنِ، وَالْأَنْفَ وَالْحَلْقَ، وَرَعْشَةَ الرَّأْسِ؛ غَيْرُ أَنَّهَا تُحْدِثُ رَعْشَةً فِي الرَّأْسِ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ رَعْشَةٌ. وَالْحِجَامَةُ تَحْتَ الذَّقَنِ تَنْفَعُ الْوَجْهَ وَالْأَسْنَان وَالْحُلْقُومَ، وَتُنَقِّي الرَّأْسَ. وَالْحِجَامَةُ عَلَى الْهَامَةِ تَنْفَعُ مِنْ اخْتِلاَطِ الْعَقْلِ وَالدُّوَارِ، وَتُبْطِئُ بِالشَّيْبِ؛ غَيْرُ أَنَّهَا تَضُرُّ بِالذِّهْنِ، وَتُورِثُ بَلَهًا. وَالْحِجَامَةُ عَلَى الْفَخْذَيْنِ مِنْ قُدَّامٍ تَنْفَعُ مِنْ وَجَعِ الْخُصْيَتَيْنِ وَخُرَّاجَاتِ الْفَخْذَيْنِ وَالسَّاقَيْنِ، وَاَلَّتِي عَلَى الْفَخْذَيْنِ مِنْ خَلْفٍ تَنْفَعُ مِنْ الْأَوْرَامِ وَالْخُرَّاجَاتِ الْحَادِثَةِ فِي الْأَلْيَتَيْنِ. وَالْحِجَامَةُ عَلَى السَّاقَيْنِ تَقُومُ مَقَامَ الْفَصْدِ، وَتُنَقِّي الدَّمَ، وَتَدِرُّ الطَّمْثَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. |